فصل: الباب الرابع من الكتاب الأول في البلدان والأمصار وسائر العمران

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الباب الرابع من الكتاب الأول في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه سوابق ولواحق الفصل الأول في أن الدول أقدم من المدن والأمصار وأنها إنما توجد ثانية عن الملك وبيانه أن البناء واختطاط المنازل إنما هو من منارع الحضارة التي يدعو إليها الترف والدعة كما قدمناه‏.‏ وذلك متآخر عن البداوة ومنازعها‏.‏ وأيضا فالمدن والأمصار ذات هياكل وأجرام عظيمة وبناء كبير‏.‏ وهي موضوعة للعموم لا للخصوص فتحتاج إلى اجتماع الأيدي وكثرة التعاون‏.‏ وليست من الأمور الضرورية للناس التى تعم بها البلوى حتى يكون نزوعهم إليها اضطراراً بل لا بد من إكراههم على ذلك وسوقهم إليه مضطهدين بعصا الملك أو مرغبين في الثواب والأجر الذي لا يفي بكثرته إلا الملك والدولة‏.‏ فلا بد في تمصير الأمصار واختطاط المدن من الدولة والملك‏.‏ ثم إذا بنيت المدينة وكمل تشييدها بحسب نظر من شيدها وبما اقتضته الأحوال السماوية والأرضية فيها فعمر الدولة حينئذ عمر لها‏.‏ فإن كان عمر الدولة قصيراً وقف الحال فيها عند انتهاء الدولة وتراجع عمرانها وخربت وإن كان أمد الدولة طويلاً ومدتها منفسحة فلا تزال المصانع فيها تشاد والمنازل الرحيبة تكثر وتتعدد ونطاق الأسواق يتباعد وينفسخ إلى أن تتسع الخطة وتبعد المسافة وينفسح ذرع المساحة كما وقع ببغداد وأمثالها‏.‏ ذكر الخطيب في تاريخه أن الحمامات بلغ عددها ببغداد لعهد المأمون خمسة وستين ألف حمام وكانت مشتملة على مدن وأمصار متلاصقة ومتقاربة تجاوز الأربعين ولم تكن مدينة وحدها يجمعها سور واحد لإفراط العمران‏.‏ وكذا حال القيروان وقرطبة والمهدية في الملة الأسلامية وحال مصر القاهرة بعدها فيما يبلغنا لهذا العهد‏.‏ وأما بعد انقراض الدولة المشيدة للمدينة‏:‏ فإما أن يكون لضواحي تلك المدينة وما قاربها من الجبال والبسائط بادية يمدها العمران دائماً فيكون ذلك حافظاً لوجودها ويستمر عمرها بعد الدولة كما تراه بفاس وبجاية من المغرب وبعراق العجم من المشرق الموجود لها العمران من الجبال لأن أهل البداوة إذا انتهت أحوالهم إلى غاياتها من الرفه والكسب تدعو إلى الدعة والسكون الذي في طبيعة البشر فينزلون المدن والأمصار ويتأهلون‏.‏ وأما إذا لم يكن لتلك المدينة المؤسسة مادة تفيدها العمران بترادف الساكن من بدوها فيكون انقراض الدولة خرقاً لسياجها فيزول حفظها ويتناقص عمرانها شيئاً فشيئاً إلى أن يبذعر ساكنها وتخرب كما وقع بمصر وبغداد والكوفة بالمشرق والقيروان والمهدية وقلعة بني حماد بالمغرب وأمثالها فتفهمه‏.‏ وربما ينزل المدينة بعد انقراض مختطيها الأولين ملك آخر ودولة ثانية يتخذها قراراً وكرسياً يستغني بها عن اختطاط مدينة ينزلها‏.‏ فتحفظ تلك الدولة سياجها وتتزايد مبانيها ومصانعها بتزايد أحوال الدولة الثانية وترفها وتستجد بعمرانها عمراً آخر كما وقع بفاس والقاهرة لهذا العهد‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏

  الفصل الثاني في أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار

وذلك أن القبائل والعصائب إذا حصل لهم الملك اضطروا للاستيلاء على الأمصار لأمرين‏:‏ أحدهما ما يدعو إليه الملك من الدعة والراحة وحط الأثقال واستكمال ما كان ناقصاً من أمور العمران في البدو والثاني دفع ما يتوقع على الملك من أمر المنازعين والمشاغبين‏.‏ لأن المصر الذي يكون في نواحيهم ربما يكون ملجأ لمن يروم منازعتهم والخروج عليهم وانتزاع ذلك الملك الذي سموا إليه من أيديهم فيعتصم بذلك المصر ويغالبهم‏.‏ ومغالبة المصر على نهاية من الصعوبة والمشقة‏.‏ والمصر يقوم مقام العساكر المتعددة لما فيه من الأمتناع ونكاية الحرب من وراء الجدران من غير حاجة إلى كثير عدد ولا عظيم شوكة‏.‏ لأن الشوكة والعصابة إنما احتيج إليهما في الحرب للثبات لما يقع من بعد كرة القوم بعضهم على بعض عند الجولة وثبات هؤلاء بالجدران فلا يضطرون إلى كبير عصابة ولا عدد‏.‏ فيكون حال هذا الحصن ومن يعتصم به من المنازعين مما يفت في عضد الأمة التي تروم الأستيلاء ويخضد شوكة استيلائها‏.‏ فإذا كانت بين أجنابهم أمصار انتظموها في استيلائهم للأمن من مثل هذا الأنخرام وإن لم يكن هناك مصر استحدثوه ضرورة لتكميل عمرانهم أولاً وحط أثقالهم وليكون شجاً في حلق من يروم العزة والامتناع عليهم من طوائفهم وعصائبهم‏.‏ فتعين أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار والاستيلاء عليها‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق لا رب سواه‏.‏

  الفصل الثالث في أن المدن العظيمة

والهياكل المرتفعة إنما يشيدها الملك الكثير قد قدمنا ذلك في آثار الدولة من المباني وغيرها وأنها تكون على نسبتها‏.‏ وذلك أن تشييد المدن إنما يحصل باجتماع الفعلة وكثرتهم وتعاونهم‏.‏ فإذا كانت الدولة عظيمة متسعة الممالك حشر الفعلة من أقطارها وجمعت أيديهم على عملها‏.‏ وربما استعين في ذلك في أكثر الأمر بالهندام الذي يضاعف القوى والقدر في حمل أثقال البناء لعجز القوة البشرية وضعفها عن ذلك كالمخال وغيره‏.‏ وربما يتوهم كثير من الناس إذا نظر إلى آثار الأقدمين ومصانعهم العظيمة مثل إيوان كسرى وأهرام مصر وحنايا المعلقة وشرشال بالمغرب إنما كانت بقدرتهم متفرقين أو مجتمعين فيتخيل لهم أجساماً تناسب ذلك أعظم من هذه بكثير في طولها وقدرها لتناسب بينها وبين القدر التي صدرت تلك المباني عنها‏.‏ ويغفل عن شأن الهندام والمخال وما اقتضته في ذلك الصناعة الهندسية‏.‏ وكثيرمن المتغلبين في البلاد يعاين في شأن البناء واستعمال الحيل في نقل الأجرام عند أهل الدولة المعتنين بذلك من العجم ما يشهد له بما قلناه عيانا‏.‏ وأكثر آثار الأقدمين لهذا العهد تسميها العامة عادية نسبة إلى قوم عاد لتوهمهم أن مباني عاد مصانعهم إنما عظمت لعظم أجسامهم وتضاعف قدرهم وليس كذلك فقد نجد آثاراً كثيرة من آثار الذين تعرف مقادير أجسامهم من الأمم وهي في مثل ذلك العظم أو أعظم كإيوان كسرى ومباني العبيديين من الشيعة بإفريقية والصنهاجيين وأثرهم باد إلى اليوم في صومعة قلعة بني حماد‏.‏ وكذلك بناء الأغالبة في جامع القيروان وبناء الموحدين في رباط الفتح ورباط السلطان أبي سعيد لعهد أربعين سنة في المنصورة بإزاء تلمسان‏.‏ وكذلك الحنايا التي جلب إليها أهل قرطاجنة الماء في القناة الراكبة عليها ماثلة أيضاً لهذا العهد‏.‏ وغير ذلك من المباني والهياكل التي نقلت إلينا أخبار أهلها قريباً وبعيداً تيقنا أنهم لم يكونوا بإفراط في مقادير أجسامهم‏.‏ وإنما هذا رأي ولع به القصاص عن قوم عاد وثمود والعمالقة‏.‏ ونجد بيوت ثمود في الحجر منحوتة إلى هذا العهد‏.‏ وقد ثبت في الحديث الصحيح أنها بيوتهم يمر بها الركب الحجازي أكثر السنين ويشاهدونها لا تزيد في جوها ومساحتها وسمكها على المتعاهد‏.‏ وإنهم ليبالغون فيما يعتقدون من ذلك‏.‏ حتى إنهم ليزعمون أن عوج بن عناق من جيل العمالقة كان يتناول السمك من البحر طرياً فيشويه في الشمس‏.‏ يزعمون بذلك أن الشمس حارة فيما قرب منها ولا يعلمون أن الحر فيما لدينا هو الضوء لانعكاس الشعاع بمقابلة سطح الأرض والهواء‏.‏ وأما الشمس في نفسها فغير حار ولا باردة‏.‏ وإنما هي كوكب مضيء لا مزاج له‏.‏ وقد تقدم شيء من هذا في الفصل الثاني حيث ذكرنا أن آثار الدولة على نسبة قوتها في أصلها‏.‏ والله يخلق مايشاء ويحكم مايريد‏.‏ في أن الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة والسبب في ذلك ما ذكرناه من حاجة البناء إلى التعاون ومضاعفة القدر البشرية‏.‏ وقد تكون المباني في عظمها أكثر من القدر مفردة أو مضاعفة بالهندام كما قلناه فيحتاج إلى معاودة قدر أخرى مثلها في أزمنة متعاقبة إلى أن تتم‏.‏ فيبتدىء الأول منهم بالبناء ويعقبه الثاني والثالث وكل واحد منهم قد استكمل شأنه في حشر الفعلة وجمع الأيدي حتى يتم القصد من ذلك ويكمل ويكون ماثلاً للعيان‏.‏ يظنه من يراه من الأخرين أنه بناء دولة واحدة‏.‏ وانظر في ذلك ما نقله المؤرخون في بناء سد مأرب وأن الذي بناه سبأ بن يشجب وساق إليه سبعين وادياً‏.‏ وعاقه الموت عن إتمامه فأتمه ملوك حمير من بعده‏.‏ ومثل هذا ما نقل في بناء قرطاجنة وقناتها الراكبة على الحنايا العادية‏.‏ وأكثر المباني العظيمة في الغالب هذا شأنها‏.‏ ويشهد لذلك المباني العظيمة لعهدنا نجد الملك الواحد يشرع في اختطاطها وتأسييسها فإذا لم يتبع أثره من بعده من الملوك في إتمامها بقيت بحالها ولم يكمل القصد فيها‏.‏ ويشهد لذلك أيضاً أنا نجد آثاراً كثيرة من المباني العظيمة تعجز الدول عن هدمها وتخبريبها مع أن الهدم أيسرمبن البناء بكثير لأن الهدم رجوع إلى الأصل الذي هو العدم والبناء على خلاف الأصل‏.‏ فإذا وجدنل بناء تضعف قوتنا البشرية عن هدمه مع سهولة الهدم علمنا أن القدرة التي أسسته مفرطة القوة وأنها ليست أثر دولة واحدة‏.‏ وهذا مثل ماوقع للعرب في إيوان كسرى لما اعتزم الرشيد على هدمه وبعث إلى يحيى بن خالد وهو في مجلسه يستشيره في ذلك فقال‏:‏ يا أمير المومنين لا تفعل واتركه ماثلاً يستدل به على عظيم ملك آبائك الذين سلبوا الملك لأهل ذلك الهيكل فاتهمه في النصيحة وقال‏:‏ أخذته النعرة للعجم‏.‏ والله لأصرعنه‏.‏ وشرع في هدمه وجمع الأيدي عليه واتخذ له الفؤوس وحماه بالنار وصب عليه الخل حتى إذا أدركه العجز بعد ذلك كله وخاف الفضيحة بعث إلى يحيى يستشيره ثانياً في التجافي عن الهدم فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين لا تفعل واستمر على ذلك لئلا يقال‏:‏ عجز أمير المؤمنين وملك العرب عن هدم مصنع من مصانع العجم فعرفها الرشيد وأقصر عن هدمه‏.‏ وكذلك اتفق للمأمون في هدم الأهرام التي بمصر وجمع الفعلة لهدمها فلم يحل بطائل‏.‏ وشرعوا في نقبه فانتهوا إلى جو بين الحائط الظل وما بعده من الحيطان وهنالك كان منتهى هدمهم‏.‏ وهو إلي اليوم فيما يقال منفذ ظاهر‏.‏ وبزعم الزاعمون أنه وجد ركازاً بين تلك الحيطان‏.‏ والله أعلم‏.‏ وكذلك حنايا المعلقة إلى هذا العهد تحتاج أهل مدينة تونس إلى انتخاب الحجارة لبنائهم وتستجيد الصناع حجارة تلك الحنايا فيحاولون على هدمها الأيام العديدة‏.‏ ولا يسقط الصغير من جدرانها إلا بعد عصب الريق وتجتمع له المحافل المشهورة‏.‏ شهدت منها فى أيام صباي كثيراً‏.‏ ‏"‏ والله خلقكم وما تعملون ‏"‏‏.‏

  الفصل الخامس فيما يجب مراعاته في أوضاع المدن وما يحدث إذا غفل عن تلك المراعاة

اعلم أن المدن قرار تتخذه الأمم عند حصول الغاية المصللوبة من الترف ودواعيه فتؤثر الدعة والسكون وتتوجه إلى اتخاذ المنازل للقرار‏.‏ ولما كان ذلك للقرار والمأوى وجب أن يراعى فيه دفع المضار بالحماية من طوارقها وجلب المنافع وتسهيل المرافق لها‏:‏ فأما الحماية من المضار فيراعى لها أن يدار على منازلها جميعاً سياج الأسوار وأن يكون وضع ذلك في ممتنع من الأمكنة إما على هضبة متوعرة من الجبل وأما باستدارة بحر أو نهر بها حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو ويتضاعف امتناعها وحصنها‏.‏ ومما يراعى في ذلك للحماية من الآفات السماوية طيب الهواء للسلامة من الأمراض‏.‏ فإن الهواء إذا كان راكداً خبيثاً أو مجاوراً للمياه الفاسدة أو لمناقع متعفنة أو لمروج خبيثة أسرع إليها العفن من مجاورتها فأسرع المرض للحيوان الكائن فيه لا محالة وهذا مشاهد‏.‏ والمدن التي لم يراع فيها طيب الهواء كثيرة الأمراض في الغالب‏.‏ وقد اشتهر بذلك في قطر المغرب بلد قابس من بلاد الجريد بإفريقية فلا يكاد ساكنها أو طارقها يخلص من حمى العفن بوجه‏.‏ ولقد يقال أن ذلك حادث فيها ولم تكن كذلك من قبل‏.‏ ونقل البكري في سبب حدوثه أنه وقع فيها حفر ظهر فيه إناء من نحاس مختوم بالرصاص‏.‏ فلما فض ختانه صعد منه دخان إلى الجو وانقطع‏.‏ وكان ذلك مبدأ أمراض الحميات فيه‏.‏ وأراد بذلك أن الأناء كان مشتملاً على بعض أعمال الطلسمات لوبائه وأنه ذهب سره بذهابه فرجع إليها العفن والوباء‏.‏ وهذه الحكاية من مذاهب العامة ومباحثهم الركيكة‏.‏ والبكري لم يكن من نباهة العلم واستنارة البصيرة بحيث يدفع مثل هذا أو يتبين خرقه فنقله كما سمعه‏.‏ والذي يكشف لك الحق في ذلك أن هذه الأهوية العفنة أكثر ما يهيئها لتعفين الأجسام وأمراض الحميات ركودها‏.‏ فإذا تخللتها الريح وتفشت وذهبت بها يميناً وشمالاً خف شأن العفن والمرض البادي منها للحيوانات‏.‏ والبلد إذا كان كثير الساكن وكثرت حركات أهله فيتموج الهواء ضرورة وتحدث الريح المتخللة للهواء الراكد ويكون ذلك معيناً له على الحركة والتموج‏.‏ وإذا خص الساكن لم يجد الهواء معيناً على حركته وتموجه وبقي ساكناً راكداً وعظم عفنه وكثر ضرره‏.‏ وبلد قابس هذه كانت عندما كانت إفريقية مستجدة العمران كثيرة الساكن تموج بأهلها موجاً‏.‏ فكان ذلك معيناً على تموج الهواء واضطرابه وتخفيف الأذى منه فلم يكن فيها كثير عفن ولا مرض‏.‏ وعندما خف ساكنها ركد هواؤها المتعفن بفساد مياهها فكثر العفن والمرض‏.‏ فهذا وجهه لا غير‏.‏ وقد رأينا عكس ذلك في بلاد وضعت ولم يراع فيها طيب الهواء‏.‏ وكانت أولاً قليلة الساكن فكانت أمراضها كثيرة‏.‏ فلما كثر ساكنها انتقل حالها عن ذلك‏.‏ وهذا مثل دار الملك بفاس لهذا العهد المسمى بالبلد الجديد وكثير من ذلك في العالم‏.‏ فتفهمه تجد ما قلته لك‏.‏ وأما جلب المنافع والمرافق للبلد فيراعى فيه أمور‏:‏ منها الماء بأن يكون البلد على نهر أو بإزائها عيون عذبة ثرة‏.‏ فإن وجود الماء قريباً من البلد يسهل على الساكن حاجة الماء وهي ضرورية فيكون لهم في وجوده مرفقة عظيمة عامة‏.‏ ومما يراعى من المرافق في المدن طيب المراعي لسائمتهم إذ صاحب كل قرار لا بد له من دواجن الحيوان للنتاج والضرع والركوب ولا بد لها من المرعى‏.‏ فإذا كان قريباً طيباً كان ذلك أرفق بحالهم لما يعانون من المشقة في بعده‏.‏ ومما يراعى أيضاً المزارع فإن الزروع هي الأقوات‏.‏ فإذا كانت مزارع البلد بالقرب منها كان ذلك أسهل في اتخاذه وأقرب في تحصيله‏.‏ ومن ذلك الشجر للحطب والبناء فإن الحطب مما تعم البلوى في اتخاذه لوقود النيران للاصطلاء والطبخ‏.‏ والخشب أيضاً ضروري لسقفهم وكثير مما يستعمل فيه الخشب من ضرورياتهم‏.‏ وقد يراعى أيضاً قربها من البحر لتسهيل الحاجات القاصية من البلاد النائية‏.‏ إلا أن ذلك ليس بمثابة الأول‏.‏ وهذه كلها متفاوتة بتفاوت الحاجات وما تدعو إليه ضرورة الساكن‏.‏ وقد يكون الواضع غافلاً عن حسن الاختيار الطبيعي أو إنما يراعي ما هو أهم على نفسه وقومه ولا يذكر حاجة غيرهم كما فعله العرب لأول الإسلام في المدن التي اختطوها بالعراق وإفريقية فإنهم لم يراعوا فيها إلا الأهم عندهم من مراعي الإبل وما يصلح لها من الشجر والماء الملح‏.‏ ولم يراعوا الماء ولا المزارع ولا الحطب ولا مراعي السائمة من ذوات الظلف ولا غير ذلك كالقيروان‏.‏ والكوفة والبصرة وأمثالها‏.‏ ولهذا كانت أقرب إلى الخراب لما لم تراع فيها الأمور الطبيعية‏.‏ ومما يراعى في البلاد الساحلية التي على البحر أن تكون في جبل أو تكون بين أمة من الأمم موفورة العدد تكون صريخاً للمدينة متى طرقها طارق من العدو‏.‏ والسبب في ذلك أن المدينة إذا كانت حاضرة البحر ولم يكن بساحتها عمران للقبائل أهل العصبيات ولا موضعها متوعر من الجبل كانت في غرة للبيات وسهل طروقها في الأساطيل البحرية على عدوها وتحيفه لها لما يأمن من وجود الصريخ لها‏.‏ وأن الحضر المتعودين للدعة قد صاروا عيالاً وخرجوا عن حكم المقاتلة‏.‏ وهذه كالإسكندرية من المشرق وطرابلس من المغرب وبونة وسلا‏.‏ ومتى كانت القبائل أو العصائب موطنين بقربها بحيث يبلغهم الصريخ والنعير وكانت متوعرة المسالك على من يرومها باختطاطها في هضاب الجبال وعلى أسنمتها كان لها بذلك منعة من العدو ويئسوا من طروقها لما يكابدونه من وعرها وما يتوقعونه من إجابة صريخها‏.‏ كما في سبتة وبجاية وبلد القل على صغرها‏.‏ فافهم ذلك واعتبره في اختصاص الأسكندرية باسم الثغر من لدن الدولة العباسية مع أن الدعوة من ورائها ببرقة وإفريقية وإنما اعتبر في ذلك المخافة المتوقعة فيها من البحر لسهولة وضعها‏.‏ ولذلك والله أعلم كان طروق العدو للإسكندرية وطرابلس في الملة مرات متعددة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

  الفصل السادس في المساجد والبيوت العظيمة في العالم

إعلم أن الله سبحانه وتعالى فضل من الأرض بقاعاً اختصها بتشريفه وجعلها مواطن لعبادته يضاعف فيها الثواب وينمي بها الأجور‏.‏ وأخبرنا بذلك على ألسن رسله وأنبيائه لطفاً بعباده وتسهيلاً لطرق السعادة لهم‏.‏ وكانت المساجد الثلاثة هي أفضل بقاع الأرض حسبما ثبت فى الصحيحين وهي مكة والمدينة وبيت المقدس‏.‏ أما البيت الحرام الذي بمكة فهو بيت إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه‏.‏ أمره الله ببنائه وأن يؤذن في الناس بالحج إليه فبناه هو وابنه إسماعيل كما نصه القرآن وقام بما أمره المله فيه‏.‏ وسكن إسماعيل به مع هاجر ومن نزل معهم من جرهم إلى أن قبضهما الله ودفنا بالحجر منه‏.‏ وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام‏.‏ أمرهما الله ببناء مسجده ونصب هياكله‏.‏ ودفن كثير من الأنبياء من ولد إسحق عليه السلام حواليه‏.‏ والمدينة مهاجر نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه آمره الله تعالى بالهجرة إليها وإقامة دين الإسلام بها فبنى مسجده الحرام بها وكان ملحده الشريف في تربتها‏.‏ فهذه المساجد الثلاثة قرة عين المسلمين ومهوى أفئدتهم وعظمة دينهم‏.‏ وفي الأثار من فضلها ومضاعفة الثواب فى مجاورتها والصلاة فيها كثير معروف‏.‏ فلنشر إلى شيء من

  الخبر عن أولية هذه المساجد الثلاثة وكيف تدرجت أحوالها إلى أن كفل ظهورها في العالم

فأما مكة فأوليتها - فيما يقال - أن آدم صلوات الله عليه بناها قبالة البيت المعمور ثم هدمها الطوفان بعد ذلك‏.‏ وليس فيه خبر صحيح يعول عليه‏.‏ وإنما اقتبسوه من مجمل الآية في قوله‏:‏ ‏"‏ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ‏"‏‏.‏ ثم بعث الله إبراهيم وكان من شأنه وشأن زوجته سارة وغيرتها من هاجر ماهو معروف‏.‏ وأوحى الله إليه أن يترك ابنه إسماعيل وأمه هاجر بالفلاة فوضعهما في مكان البيت وسار عنهما‏.‏ وكيف جعل الله لهما من اللطف في نبع ماء زمزم ومرور الرفقة من جرهم بهما حتى احتملوهما وسكنوا إليهما ونزلوا معهما حوالي زمزم كما عرف في موضعه‏.‏ فاتخذ إسماعيل بموضع الكعبة بيتاً يأوي إليه وأدار عليه سياجاً من الردم وجعله زرباً لغنمه‏.‏ وجاء إبراهيم صلوات الله عليه مراراً لزيارته من الشام أمر في آخرها ببناء الكعبة مكان ذلك الزرب فبناه واستعان فيه بابنه إسماعيل ودعا الناس إلى حجه وبقي إسماعيل ساكناً به‏.‏ ولما قبضت أمه هاجر وقام بنوه من بعده بأمر البيت مع أخوالهم من جرهم ثم العماليق من بعدهم‏.‏ واستمر الحال على ذلك والناس يهرعون إليها من كل أفق من جميع أهل الخليقة لا من بني إسماعيل ولا من غيرهم ممن دنا أو نأى‏.‏ فقد نقل أن التبابعة كانت تجج البيت وتعظمه وأن تبعاً كساها الملاء والوصائل وأمر بتطهيرها وجعله لها مفتاحاً‏.‏ ونقل أيضاً أن الفرس كانت تحجه وتقرب إليه وأن غزالي الذهب اللذين وجدهما عبد المطلب حين احتفر زمزم كانا من قرابينهم‏.‏ ولم يزل لجرهم الولاية عليه من بعد ولد إسماعيل من قبل خؤولتهم حتى إذا خرجت خزاعة وأقاموا بها بعدهم ما شاء الله ثم كثر ولد إسماعيل وانتشروا وتشعبوا إلى كنانة ثم كنانة إلى قريش وغيرهم‏.‏ وساءت ولاية خزاعة فغلبتهم قريش على أمره‏.‏ وأخرجوهم من البيت وملكوا عليهم يومئذ قصي بن كلاب فبنى البيت وسقفه بخشب الدوم وجريد النخل‏.‏ وقال الأعشى‏:‏ خلفت بثوبي راهب الدور والتي بناها قصي والمضاض بن جرهم ثم أصاب البيت سيل ويقال حريق وتهدم وأعادوا بناءه وجمعوا النفقة لذلك من أموالهم‏.‏ وانكسرت سفينة بساحل جدة فاشتروا خشبها للسقف‏.‏ وكانت جدرانه فوق القامة فجعلوها ثمانية عشر ذراعاً‏.‏ وكان الباب لاصقاً بالأرض فجعلوه فوق القامة لئلا تدخله السيول‏.‏ وقصرت بهم النفقة عن إتمامه فقصروا عن قواعده وتركوا منه ستة أذرع وشبراً أداروها بجدار قصير يطاف من ورائه وهو الحجر‏.‏ وبقي البيت على هذا البناء إلى أن تحصن ابن الزبير بمكة حين دعا لنفسه وزحفت إليه جيوش يزيد بن معاوية مع الحصين بن نمير السكوني‏.‏ ورمى البيت سنة أربع وستين فأصابه حريق‏.‏ يقال من النفط الذي رموا به على ابن الزبير فتصدعت حيطانه فهدمه ابن الزبير وأعاد بناءه أحسن ما كان بعد أن اختلفت عليه الصحابة في بنائه واحتج عليهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها‏:‏ لولا قومك حديثو عهد بكفم لرددت البيت على قواعد إبراهيم ولجعلت له بابين‏:‏ شرقياً وغربياً فهدمه وكشف عن أساس إبراهيم عليه السلام‏.‏ وجمع الوجوه والأكابر حتى عاينوه‏.‏ وأشار عليه ابن عباس بالتحري في حفظ القبلة على الناس فأدار على الأساس الخشب ونصب من فوقها الأستار حفظاً للقبلة‏.‏ وبعث إلى صنعاء في الفضة والكلس فحملها وسأل عن قطع الحجارة الأول فجمع منها ما احتاج إليه‏.‏ ثم شرع في البناء على أساس إبراهيم عليه السلام‏.‏ ورفع جدرانها سبعاً وعشرين ذراعاً وجعل لها بابين لاصقين بالأرض كما روى في حديثه‏.‏ وجعل فرشها وأزرها بالرخام وصاغ لها المفاتيح وصفائح الأبواب من الذهب‏.‏ ثم جاء الحجاج لحصاره أيام عبد الملك ورمى على المسجد بالمنجنيقات إلى أن تصدعت حيطانه‏.‏ ثم لما ظفر بابن الزبير شاورعبد الملك فيما بناه وزاده في البيت فأمره بهدمه ورد البيت على قواعد قريش كما هي اليوم‏.‏ ويقال‏:‏ إنه ندم على ذلك حين علم صحة رواية ابن الزبير لحديث عائشة وقال‏:‏ وددت أني كنت حملت أبا حبيب من أمر البيت وبنائه ما تحمل فهدم الحجاح منها ستة أذرع وشبراً مكان الحجر وبناها على أساس قريش وسد الباب الغربي وما تحت عتبة بابها اليوم من الباب الشرقي‏.‏ وترك سائرها لم يغير منه شيئاً‏.‏ فكل البناء الذي فيه اليوم بناء ابن الزبير‏.‏ وبين بنائه وبناء الحجاج في الحائط صلة ظاهرة للعيان لحمة ويعرض ههنا إشكال قوي لمنافاته لما يقوله الفقهاء في أمر الطواف‏.‏ ويحذر الطائف أن يميل على الشاذروان الدائر على أساس الجدر من أسفلها فيقع طوافه داخل البيت بناء على أن الجدار إنما قام على بعض الأساس وترك بعضه وهو مكان الشاذروان‏.‏ وكذا قالوا في تقبيل الحجر الأسود لا بد من رجوع الطائف من التقبيل حتى يستوي قائماً لئلا يقع بعض طوافه داخل البيت‏.‏ وإذا كانت الجدران كلها من بناء ابن الزبير وهو إنما بني على أساس إبراهيم فكيف يقع هذا الذي قالوه‏.‏ ولا مخلص من هذا إلا بأحد أمرين‏:‏ إما أن يكون الحجاج هدمه جميعه وأعاده وقد نقل ذلك جماعة إلا أن العيان في شواهد البناء بالتحام ما بين البناءين وتمييز أحد الشقين من أعلاه عن الآخر في الصناعة يرد ذلك وأما أن يكون ابن الزبير لم يرد البيت على أساس إبراهيم من جميع جهاته وإنما فعل ذلك في الحجر فقط ليدخله‏.‏ فهي الآن مع كونها من بناء ابن الزبير ليست على قواعد إبراهيم‏.‏ وهذا بعيد ولا محيص من هذين‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ ثم إن ساحة البيت وهو المسجد كان فضاء للطائفين ولم يكن عليه جدار أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر من بعده‏.‏ ثم كثر الناس فاشترى عمر رضي الله عنه دوراً هدمها وزادها في المسجد وأدار عليها جداراً دون القامة‏.‏ وفعل مثل ذلك عثمان ثم ابن الزبير ثم الوليد بن عبد الملك‏.‏ وبناه بعمد الرخام‏.‏ ثم زاد فيه المنصور وابنه المهدي من بعده ووقفت الزيادة واستقرت على ذلك لعهدنا‏.‏ وتشريف الله لهذا البيت وعنايته به أكثر من أن يحاط به‏.‏ وكفى من ذلك أن جعله مهبطاً للوحي والملائكة ومكاناً للعبادة وفرض شعائر الحج ومناسكه وأوجب لحرمه من سائر نواحيه من حقوق التعظيم والحق مالم يوجبه لغيره فمنع كل من خالف دين الإسلام من دخول ذلك الحرم‏.‏ وأوجب على داخله أن يتجرد من المخيط إلا إزاراً يستره‏.‏ وحمى العائذ به والراتع في مسارحه من مواقع الأفات فلا يراع فيه خائف ولا يصاد له وحش ولا يحتطب له شجر‏.‏ وحد الحرم الذي يختص بهذه الحرمة من طريق المدينة ثلاثة أميال إلى التنعيم ومن طريق العراق سبعة أميال إلى الثنية من جبل المنقطع ومن طريق الجعرانة تسعة أميال إلى الشعب ومن طريق الطائف سبعة أميال إلى بطن نمرة ومن طريق جدة سبه أميال إلى منقطع العشائر‏.‏ هذا شأن مكة وخبرها وتسمى أم القرى وتسمى الكعبة لعلوها من اسم الكعب ويقال لها أيضاً بكة‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ لأن الناس يبك بعضهم بعضاً إليها أي يدفع‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إنما هي باء بكة أبدلوها ميماً كما قالوا لازب ولازم لقرب المخرجين‏.‏ وقال ا لنخعي‏:‏ بالباء للبيت - وبالميم للبلد‏.‏ وقال الزهري‏:‏ بالباء للمسجد كله وبالميم للحرم‏.‏ وقد كانت الأمم منذ عهد وقصة الأسياف وغزالي الذهب اللذين وجدهما عبد المطلب حين احتفر زمزم معروفة‏.‏ وقد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة في الجب الذي كان فيها سبعين ألف أوقية من الذهب مما كان الملوك يهدون للبيت قيمتها ألف ألف دينار مكررة مرتين بمائتي قنطار وزناً‏.‏ وقال اله علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ يا رسول الله لو استعنت بهذا المال على حربك فلم يفعل‏.‏ ثم ذكر لأبي بكر فلم يحركه‏.‏ هكذا قال الأزرقي‏.‏ وفي البخاري بسنده إلى أبي وائل قال‏:‏ جلست إلى شيبة بن عثمان وقال جلس إلي عمر بن الخطاب فقال‏:‏ هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين‏.‏ قلت ما أنت بفاعل قال‏.‏ ‏:‏ ولم قلت‏:‏ فلم يفعله صاحباك‏.‏ فقال‏:‏ هما اللذان يقتدى بهما‏.‏ وخرجه أبو داود وابن ماجة وأقام ذلك المال إلى أن كانت فتنة الأفطس وهو الحسن بن الحسين بن علي بن علي زين العابدين سنة تسع وتسعين ومائة حين غلب على مكة عمد إلى الكعبة فأخذ ما في خزائنها وقال‏:‏ ما تصنع الكعبة بهذا المال موضوعاً فيها لا ينتفع به نحن أحق به نستعين به على حربنا وأخرجه وتصرف فيه وبطلت الذخيرة من الكعبة من يومئذ‏.‏ وأما بيت المقدس وهو المسجد الأقصى فكان أول أمره أيام الصابئة موضعاً لهيكل الزهرة وكانوا يقربون إليه الزيت فيما يقربونه ويصبونه على الصخرة التي هناك‏.‏ ثم دثر ذلك الهيكل واتخذها بنو إسرائيل حين ملكوها قبلة لصلاتهم‏.‏ وذلك أن موسى صلوات الله عليه لما خرج ببني إسرائيل من مصر لتمليكهم بيت المقدس كما وعد الله أباهم إسرائيل وأباه إسحق ويعقوب من قبله وأقاموا بفرض التيه أمره الله باتخاذ قبة من خشب السنط عين بالوحي مقدارها وصفتها وهياكلها وتماثيلها وأن يكون فيها التابوت ومائدة بصحافها ومنارة بقناديلها وأن يصنع مذبحاً للقربان وصف ذلك كله في التوراة أكمل وصف فصنع القبة ووضع فيها تابوت العهد وهو التابوت الذي فيه الألواح المصنوعة عوضاً عن الألواح المنزلة بالكلمات العشر لما تكسرت ووضع المذبح عندها‏.‏ وعهد الله إلى موسى بأن يكون هرون صاحب القربان ونصبوا تلك القبة بين خيامهم في التيه يصلون إليها ويقربون في المذبح أمامها ويتعرضون للوحي عندها‏.‏ ولما ملكوا أرض الشام أئزلوها بكلكال من بلاد الأرض المقدسة ما بين قسم بني يامين وبني أفراييم‏.‏ وبقيت هنالك أربع عشرة سنة‏:‏ سبعاً مئة الحرب وسبعاً بعد الفتح أيام قسمة البلاد ولما توفي يوشع عليه السلام نقلوها إلى بلد شيلو قريباً من كلكال وأداروا عليها الحيطان‏.‏ وأقامت على ذلك ثلاثمائة سنة حتى ملكها بنو فلسطين من أيديهم كما مر وتغلبوا عليهم‏.‏ ثم ردوا عليهم القبة ونقلوها بعد وفاة عالي الكوهن إلى نوف‏.‏ ثم نقلت أيام طالوت إلى كنعان في بلاد بني يامين‏.‏ ولما ملك داود عليه السلام نقل القبة والتابوت إلى بيت المقدس وجعل عليها خباء خاصاً ووضعها على الصخرة‏.‏ وبقيت تلك القبة قبلتهم ووضعوها على الصخرة ببيت المقدس وأراد داود عليه السلام بناء مسجده على الصخرة مكانها فلم يتم له ذلك وعهد به إلى ابنه سليمان فبناه لأربع سنين من ملكه ولخمسمائة سنة من وفاة موسى عليه السلام‏.‏ واتخذ عمده من الصفر وجعل به صرح الزجاج وغشى أبوابه وحيطانه بالذهب وصاغ هياكله وتماثيله وأوعيته ومنارته ومفتاحه من الذهب وجعل فى ظهره قبراً ليضع فيه تابوت العهد وهو التابوت الذي فيه الألواح‏.‏ وجاء به من صهيون بلد أبيه داود نقله إليها أيام عمارة المسجد فجيء به تحمله الأسباط والكهنوتية حتى وضعه في القبر ووضعت القبة والأوعية والمذبح كل واحد حيث أعد له من المسجد‏.‏ وأقام كذلك ما شاء الله‏.‏ ثم خربه بختنصر بعد ثمانمائة سنة من بنائه وأحرق التوراة والعصا وصاغ الهياكل ونثر الأحجار‏.‏ ثم لما أعادهم ملوك الفرس بناه عزير نبي إسرائيل لعهده بإعانة بهمن ملك الفرس الذي كانت الولادة لبني إسرائيل عليه من سبي بختنصر‏.‏ وحد لهم في بنيانه حدوداً دون بناء سليمان بن داود عليهما السلام فلم يتجاوزوهما‏.‏ وأما الأواوين التي تحت المسجد يركب بعضها بعضاً عمود الأعلى منها على قوس الأسفل في طبقتين‏.‏ ويتوهم كثير من الناس أنها إصطبلات سليمان عليه السلام وليس كذلك‏.‏ وإنما بناها تنزيهاً للبيت المقدس عما يتوهم من النجاسة لأن النجاسات في شريعتهم وإن كانت في باطن الأرض وكان ما بينها وبين ظاهر الأرض محشواً بالتراب بحيث يصل ما بينها وبين الظاهر خط مستقيم ينجس ذلك الظاهر بالتوهم والمتوهم عندهم كالمحقق فبنوا هذه الأواوين على هذه الصورة بعمود الأواوين السفلية تنتهي إلى أقواسها وينقطع خطه فلا تتصل النجاسة بالأعلى على خط مستقيم‏.‏ وتنزه البيت عن هذه النجاسة المتوهمة ليكون ذلك أبلغ في الطهارة والتقديس‏.‏ ثم تداولتهم ملوك يونان والفرس والروم‏.‏ واستفحل الملك لبني إسرائيل في هذه المدة‏:‏ لبني حشمناي من كهنتهم ثم لصهرهم هيرودس ولبنيه من بعده‏.‏ وبنى هيرودس بيت المقدس على بناء سليمان عليه السلام وتأنق فيه حتى أكمله في ست سنين‏.‏ فلما جاء طيطش من ملوك الروم وغلبهم وملك أمرهم خرب بيت المقدس ومسجدها وأمر أن يزرع مكانه‏.‏ ثم أخذ الروم بدين المسيح عليه السلام ودانوا بتعظيمه‏.‏ ثم اختلف حال ملوك الروم في الأخذ بدين النصرانية تارة وتركه أخرى إلى أن جاء قسطنطين وتنصرت أمه هيلانة وارتحلت إلى القدس في طلب الخشبة التي صلب عليها المسيح بزعمهم فأخبرها القمامصة بأنه رمي بخشبته على الأرض وألقي عليها القمامات والقاذورات‏.‏ فاستخرجت الخشبة وبنت مكان تلك القمامات كنيسة القمامة كأنها على قبره بزعمهم وخربت ما وجدت من عمارة البيت وأمرت بطرح الزبل والقمامات على الصخرة حتى غطاها وخفي مكانها جزاء بزعمها عما فعلوه بقبر المسيح‏.‏ ثم بنوا بإزاء القمامة بيت لحم وهو البيت الذي ولد فيه عيسى عليه السلام وبقي الأمر كذلك إلى أن جاء الإسلام والفتح وحضر عمر لفتح بيت المقدس وسأل عن الصخرة فأري مكانها وقد علاها الزبل والتراب فكشف عنها وبنى عليها مسجداً على طريق البداوة‏.‏ وعظم من شأنه ما أذن الله من تعظيمه وما سبق من أم الكتاب في فضله حسبما ثبت‏.‏ ثم احتفل الوليد بن عبد الملك في تشييد مسجده على سنن مساجد الإسلام بما شاء الله من الاحتفال كما فعل في المسجد الحرام وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وفي مسجد دمشق وكانت العرب تسميه بلاط الوليد‏.‏ وألزم ملك الروم أن يبعث الفعلة والمال لبناء هذه المساجد وأن ينمقوها بالفسيفساء فأطاع لذلك وتم بناؤها على ما اقترحه‏.‏ ثم لما ضعف أمر الخلافة أعوام الخمسمائة من الهجرة في آخرها وكانت في ملكة العبيديين خلفاء القاهرة من الشيعة واختل أمرهم زحف الفرنجة إلى بيت المقدس فملكوه وملكوا معه عامة ثغور الشام‏.‏ وبنوا على الصخرة المقدسة منه كنيسة كانوا يعظمونها ويفتخرون ببنائها حتى إذا استقل صلاح الدين ابن أيوب الكردي بملك مصر والشام ومحا أثر العبيديين وبدعهم زحف إلى الشام وجاهد من كان به من الفرنجة حتى غلبهم على بيت المقدس وعلى ما كانوا ملكوه من ثغور الشام‏.‏ وذلك لنحو ثمانين وخمسائة من الهجرة‏.‏ وهدم تلك الكنيسة وأظهر الصخرة وبنى المسجد على النحو الذي هو عليه اليوم لهذا العهد‏.‏ ولا يعرض لك الإشكال المعروف في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أول بيت وضع فقال‏:‏ مكة‏.‏ قيل‏:‏ ثم أي قال‏:‏ بيت المقدس قيل‏:‏ فكم بينهما قال‏:‏ أربعون سنة‏.‏ فإن المدة بين بناء مكة وبين بناء بيت المقدس بمقدار ما بين إبراهيم وسليمان‏.‏ لأن سليمان بانيه وهو ينيف على الألف بكثير‏.‏ واعلم أن المراد بالوضع في الحديث ليس البناء وإنما المراد أول بيت عين للعبادة‏.‏ ولايبعد أن يكون بيت المقدس عين للعبادة قبل بناء سليمان بمثل هذه المدة‏.‏ وقد نقل أن الصابئة بنوا على الصخرة هيكل الزهرة فلعل ذلك لأنها كانت مكاناً للعبادة كما كانت الجاهلية تضع الأصنام والتماثيل حوالي الكعبة وفي جوفها‏.‏ والصابئة الذين بنوا هيكل الزهرة كانوا على عهد إبراهيم عليه السلام فلا تبعد مئة الأربعين سنة بين وضع مكة للعبادة ووضع بيت المقدس وإن لم يكن هناك بناء كما هو المعروف‏.‏ وإن أول من بنى بيت المقدس سليمان عليه السلام فتفهمه ففيه وأما المدينة المنورة - وهي المسماة بيثرب - فهي من بناء يثرب بن مهلائل من االعمالقة وبه سميت‏.‏ وملكها بنو إسرائيل من أيديهم فيما ملكوه من أرض الحجاز‏.‏ ثم جاورهم بنو قيلة من غسان وغلبوهم عليها وعلى حصونها‏.‏ ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليها لما سبق من عناية الله بها فهاجر إليها ومعه أبو بكر وتبعه أصحابه ونزل بها وبنى مسجده وبيوته في الموضع الذي كان الله قد أعده لذلك وشرفه في سابق أزله‏.‏ وأواه أبناء قيلة ونصروه فلذلك سموا الأنصار‏.‏ وتمت كلمة الإسلام من المدينة حتى علت على الكلمات وغلب على قومه وفتح مكة وملكها‏.‏ وظن الأنصار أنه يتحول عنهم إلى بلده‏!‏ فأهمهم ذلك فخطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أنه غير متحول‏.‏ حتى إذا قبض صلى الله عليه وسلم كان ملحده الشريف بها‏.‏ وجاء في فضلها من الأحاديث الصحيحه ما لا خفاء به‏.‏ ووقع الخلاف بين العلماء في تفضيلها على مكة وبه قال مالك رحمه الله لما ثبت عنده في ذلك من النص الصريح عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ المدينة خير من مكة ‏"‏‏.‏ نقل ذلك عبد الوهاب في المعونة إلى أحاديث أخرى تدل بظاهرها على ذلك‏.‏ وخالف أبو حنيفة والشافعي‏.‏ وأصبحت على كل حال ثانية المسجد الحرام‏.‏ وجنح إليها الأمم بأفئدتهم من كل أوب‏.‏ فانظر كيف تدرجت الفضيلة في هذه المساجد المعظمة لما سبق من عناية الله‏.‏ لها وتفهم سر الله وأما غير هذه المساجد الثلاثة فلا نعلمه في الأرض إلا ما يقال من شأن مسجد آدم عليه السلام بسرنديب من جزائر الهند‏.‏ لكنه لم يثبت فيه شيء يعول عليه‏.‏ وقد كانت للأمم في القديم مساجد يعظمونها على جهة الديانة بزعمهم‏.‏ منها بيوت النار للفرس وهياكل يونان وبيوت العرب بالحجاز التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمها في غزواته‏.‏ وقد ذكر المسعودي منها بيوتاً لسنا من ذكرها في شيء إذ هي غير مشروعة ولا هي على طريق ديني ولا يلتفت إليها ولا إلىالخبر عنها ويكفي في ذلك ما وقع في التواريخ‏.‏ فمن أراد معرفة الأخبار‏.‏ فعليه بها‏.‏ والله يهدي من يشاء سبحانه‏.‏